فصل: تفسير الآية رقم (14):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التيسير في التفسير أو التفسير الكبير المشهور بـ «تفسير القشيري»



.تفسير الآية رقم (14):

{وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (14)}
الإشارة في هذه الآية أن النصارى أثبت لهم الاسم بدعواهم فقال: {قَالُوا إِنَّا نَصَارَى} وسموا نصارى لتناصرهم، وبدعواهم حرَّفوا وبدَّلوا؛ وأما المسلمون فقال: {هُوَ سَمَّاكُمُ المُسْلِمِينَ} [الحج: 78].
كما قال: {وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا} [المائدة: 2] فلا جَرَمَ ألا يسموا بالتناصر. ولمَّا سمَّاهم الحقُّ بالإسلام ورَضِيَ لَهم به صانهم عن التبديل فَعُصِمُوا.
ولما استمكن منهم النسيان أبدلوا بالعداوة فيما بينهم، وفساد ذات البين؛ فأرباب الغفلة لا ألفة بينهم. وأهل الوفاء لا مباينة لبعضهم من بعض، قال صلى الله عليه وسلم: «المؤمنون كنفس واحدة»، وقال تعالى في صفة أهل الجنة: {إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ} [الصافات: 44].

.تفسير الآيات (15- 16):

{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (16)}
قوله جلّ ذكره: {يَاأَهْلَ الكِتَابِ قَد جَآءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مَنَ الكِتَابِ وَيَعْفُوا عَن كَثِيرٍ}.
وصف الرسول- صلى الله عليه وسلم- بإظهار بعض ما أخفوه، وذلك علامة على صدقه؛ إذ لولا صدقه لما عَرَفَ ذلك. ووصفه بالعفو عن كثير من أفعالهم، وذلك من أمارات خُلُقِه؛ إذ لولا خُلُقُهُ لَمَا فعل ذلك؛ فإظهار ما أبداه دليل عِلْمه، والعفو عما أخفى برهانِ حِلْمِه.
قوله جلّ ذكره: {قَدْ جَاءَكُمْ مِّنَ اللهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ يَهْدِى بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلى النَّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ}.
أنوار التوحيد ظاهرة لكنها لا تغني عند فقد البصيرة، فمن استخلصه بقديم العناية أخرجه من ظلمات التفرقة إلى ساحات الجمع فامتحى عن سِرِّه شواهد الأغيار، وذلك نعت كل من وقف على الحجة المثلى.

.تفسير الآية رقم (17):

{لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17)}
مَنْ اشتملت عليه أرحامُ الطوامثُ متى يفارقه نَقْصُ الخِلْقة؟
ومَنْ لاحت عليه شواهدُ التغيُّر أَنَّى يليق به نعت الربوبية؟
ولو قَطَعَ البقاءَ عن جميع ما أوجد فأي نقصٍ يعود إلى الصمد؟

.تفسير الآية رقم (18):

{وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (18)}
البنوة تقتضي المجانسة، والحقُّ عنها مُنضزَّهٌ، والمحبةُ بين المتجانسين تقتضي الاحتفاظ والمؤانسة، والحق سبحانه عن ذلك مُقدَّس.
فردَّ الله- سبحانه- عليهم فقال تعالى: {بَلْ أَنْتُم بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ}.
والمخلوق لا يصلح أن يكون بعضاً للقديم؛ فالقديم لا بعضَ له لأن الأحدية حقه، فإذا لم يكن له عدد لم يجز أن يكون له ولد. وإذا لم يجز له ولد لم تجز- على الوجه الذي اعتقدوه- بينهم وبينه محبة.
ويقال في الآية بشارة لأهل المحبة بالأمان من العذاب والعقوبة به لأنه قال: {قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم}.
ويقال بيَّن في هذه الآية أن قصارى الخلْق إمَّا عذاب وإمّا غفران ولا سبيل إلى شيء وراء ذلك.

.تفسير الآية رقم (19):

{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (19)}
يقال في: كل زمان تقع فَتْرَة في سبيل الله ثم تجدد الحال، ويُعَمُّ الطريق بإبداء السالكين من كتم العَدَم، ولقد كان زمانُ الرسولِ- صلى الله عليه وسلم- أكثرَ الأزمنة بركةً، فأحيا بظهوره ما اندرس من السبيل، وأضاء بنوره ما انطمس من الدليل، وبذلك مَنَّ عليهم، وذكَّرهم عظيمَ نعمتِه فيهم.

.تفسير الآية رقم (20):

{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآَتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (20)}
قوله جلّ ذكره: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنبِيَآءَ}.
كان الأمر لبني إسرائيل- على لسان نَبِيِّهم- بأن يتذكروا نعمة الله عليهم، وكان الأمر لهذه الأمة- بخطاب الله لا على لسان مخلوق- بأن يذكروه فقال: {فَاذْكُرُونِى أَذْكُرْكُمْ} [البقرة: 152] وشتان بين من أمره بذكره- سبحانه- وبين من أمره بذكر نعمته! ثم جعل جزاءَهم ثوابَه الذي هو فضله، وجعل جزاء هذه الأمة خطابه الذي هو قوله تعالى: {فَاذْكُرُونِى أَذْكُرْكُمْ} [البقرة: 152].
قوله جلّ ذكره: {وَجَعَلَكُم مُّلُوكًا}.
المَلِكُ مِنَ المخلوقين مَنْ عَبَدَ المَلِكَ الحقيقي.
ويقال المَلِكُ مَنْ مَلَكَ هواه، والعبد من هو في رِقِّ شهواته.
ويقال: {وَجَعَلَكُم مُّلُوكًا}: لم يخرجكم إلى أمثالكم، ولم يحجبكم عن نفسه بأشغالهم، وسَهَّلَ إليه سبيلَكم في عموم أحوالِكم.
قوله جلّ ذكره: {وَآتَاكُم مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِّنَ العَالَمِينَ}.
لئن آتي بني إسرائيل بمقتضى جوده فقد أغنى عن الإيتاء هذه الأمة فاستقلوا بوجوده، والاستقلال بوجوده أتمَّ من الاستغناء بمقتضى جوده.

.تفسير الآية رقم (21):

{يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (21)}
قوله جلّ ذكره: {يَاقَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ التي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ}.
من الفرق بين هذه الأمة وبين بني إسرائيل أنه أباح لهم دخولَ الأرض المقدسة على الخصوص فقال: {يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ التي كَتَبَ اللهُ لَكُمْ} ثم إنهم لم يدخلوها إلا بعد مدة، وبعد جهد وشدة، وقال في شأن هذه الأمة: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا في الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِىَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء: 105] فأولئك كتب لهم دخول الأرض كتابةَ تكليف ثم قصروا، وهذه الأمة كتب لهم جميع الأرض على جهة التشريف، ثم وصلوا إلى ما كتب لهم وما قصروا.
وقال: {ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ} وقال لهذه الأمة: {هُوَ الذي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا في مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ} [الملك: 15] فهؤلاء ذلَّل لهم وسهَّل عليهم، وأولئك صعَّب عليهم الوصول إلى ما أمرهم فيما أنزل الله عليهم.
قوله جلّ ذكره: {وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ}.
الارتداد على قسمين: عن الشريعة وإقامة العبودية وذلك يوجب عقوبة النفوس بالقتل، وعن الإرادة وذلك يوجب الشِّقْوَة- التي هي الفراق- على القلوب.

.تفسير الآية رقم (22):

{قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ (22)}
لاحظوا الأغيار بعين الحسبان فتوهموا أن شيئاً من الحدثان، وداخلتهم هواجمُ الرعبِ فأصروا على ترك الأمر. ومَنْ طالع الأغيار بأنوار البصائر شاهدهم في أَسْرِ التقدير قوالبَ متعريةً عن إمكان الإيجاد، ولم يقع على قلبه ظلُّ التُّوهم.

.تفسير الآية رقم (23):

{قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (23)}
قوله جلّ ذكره: {قَالَ رَجُلاَنِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ البابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ}.
أنعم الله (عليهما) بأنوار العرفان فلم يحتشما من المخلوقين، وعلما أن من رجع إليه بنعت الاستكفاء تداركتْه عواجلُ الكفاية ثم قال: {وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُوا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}.
أي من شأن المؤمنين أن يتوكلوا، وينبغي للمؤمن أن يتوكل.
ويحتمل أن يقال التوكل من شرط الإيمان. وظاهر التوكل الذي لعوام المؤمنين العلم بأن قضاءه لا رادَّ له، وحقائق التوكل ولطائفه التي لخواص المؤمنين شهود الحادثات بالله ومِنْ الله ولله، فإنَّ مَنْ فَقَدَ ذلك انتفى عنه اسم الإيمان.

.تفسير الآية رقم (24):

{قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ (24)}
قوله جلّ ذكره: {قَألُوا يَامُوسَى إِنَّا لَن نَّدْخُلْهَآ أَبِداً مَّا دَامُوا فِيهَا}.
مَنْ أَقْصَتْه سوابِقُ التقدير لم يزِدْه تواترُ (العظة) إلا نفوراً وجحوداً.
قوله جلّ ذكره: {فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلاَ إِنَّا هاهنا قَاعِدُونَ}.
تركوا آداب الخطابِ فصرَّحوا ببيان الجحد ولم يحتشموا من مجاهرة الرد.

.تفسير الآية رقم (25):

{قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (25)}
لما ادَّعى أَنَّه يملك نَفْسَه عرف عجزه عن مِلْكِه لنفسه حيث أخذ برأس أخيه يجرُّه إليه.
ويقال: لا أملك إلا نفسي أي لا أدخرها عن البذل في أمرك. لا أملك إلا أخي فإنه لا يؤثر نفسه عن الذي أكلفه مِنْ قِبَلِكَ.

.تفسير الآية رقم (26):

{قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (26)}
مجاهرة الرد تعجّل العقوبة؛ فإن من مَاكَر الحقيقة أبدت الحقيقة له من مكامن التقدير ما يُلْجِئُه إلى التطوُّح في أوطان الذُّلِّ.
ويقال حيَّرهم في مفاوزهم حتى عموا عن القَصد؛ فصاروا يبيتون حيث يصبحون، بعد طول التعب وإدامة السير، وكذلك من حيَّره اللهُ في مفاوز القلب يتقلب ليلاً ونهاراً في مطارح الظنون ثم لا يحصل إلا على مناهل الحيرة، فيحطون بحيث يرحلون عنها، فلا وجهَ للرأي الصائب يلوح لهم، ولا خلاص من بعده للتجويز يساعدهم، والذي التجأ إلى شهود الصمدية استراح عن نقلة فكره، ووقع في روح الاستبصار بعد أتعاب التوهم.

.تفسير الآية رقم (27):

{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آَدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآَخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27)}
قوله جلّ ذكره: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَى ءَادَمَ بِالحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الأَخَرِ قَالَ لأَقْتُلَنَّكَ}.
كانت الدنيا بحذافيرها في أيديهما فحسد أحَدُهما صاحبَه، فلم يصبر حتى أسرع في شيء بإتلافه، وحين لم يُقْبَلْ قربانُه اشتد حسدُه على صاحبه، ورأى ذلك منه فهدَّدَه بالقتل.
فأجابه بنطق التوحيد.
قوله جلّ ذكره: {قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ المُتَّقِينَ}.
يعني إنما يُتَقَبَّلُ القربانُ مِمَّن طالَع في القربان مساعدةَ القدرة، وألقى توهُّم كونه باستحقاقه واستيجابه.

.تفسير الآية رقم (28):

{لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (28)}
لئن بدأتني بالإثارة لم أقابلك كأوصاف أهل الجهل بل أَكِلُ أمري إلى من بيده مقاليد الأمور.

.تفسير الآية رقم (29):

{إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (29)}
تحقَّق بأنَّ العقوبة لاحِقةٌ به على ما يسلفه من الذَّنب فَرَضِيَ بانتقامِ اللهِ دون انتقامه لنفسه.
وقوله: {أَن تَبُوأَ بإِثْمِى وَإِثْمِكَ} الذي تستوجبه بسبب قتلك إياي، فأضافه إلى نفسه، وإذا رأى المظلوم ما يحلُّ بالظالم من أليم البلاء يهون عليه ما يقاسيه ويطيب قلبه.

.تفسير الآية رقم (30):

{فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (30)}
لا تستولي هواجس النفوس على صاحبها إلا بعد استتار مواعظ الحق، فإذا توالت العزائمُ الرديئةُ، واستحكمت القصودُ الفاسدةُ من العبد صارت دواعي الحق خفيةً مغمورةً. والنَّفْسُ لا تدعو إلا إلى اتباع الشهوات ومتابعة المعصية، وهي مجبولةٌ على الأخلاق المجوسية. فمن تابع الشهوات لا يلبث أن ينزل بساحات الندم ثم لا ينفعه ذلك.

.تفسير الآية رقم (31):

{فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (31)}
إرادة الحق- سبحانه- وصولُ الخلْقِ إلى لطف الاحتياط في أسباب التعيش، فإذا أشكل عليهم وجهٌ من لطائف الحيلة سبَّب الله شيئاً يَعَرِّفُهم ذلك به.